

- الجمعة ٠٥ مايو ٢٠٢٥
- تجارب وقصص حقيقية
من 10,000 ريال إلى عالم العقارات
الانطلاقة من الصفر
"وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (سورة الطلاق: 3)
كم من أبواب للرزق تُفتح من حيث لا نتوقع، وكم من دروب للنجاح تُمهد لمن يتوكل على خالقه حق التوكل ثم يأخذ بالأسباب المتاحة مهما بدت ضئيلة. الآية الكريمة تذكرنا بأن أقدار الله نافذة، وأن لكل شيء عنده مقداراً، وأن الرزق قد يأتي من مسالك لم تخطر على بال العبد، فقط عليه السعي والتوكل. إن عالم الأعمال مليء بالقصص التي تجسد هذا المعنى، حكايات لأفراد بدأوا رحلتهم من لا شيء تقريباً، مسلحين بالإيمان والعزيمة وحسن التدبير، فبلغوا ما لم يكن في الحسبان.
في هذا الصدد أورد اليكم كـ مكتب دراسات جدوى قصة حقيقة ، نسرد واحدة من هذه القصص الملهمة التي شهدتها بنفسي، قصة السيد (ب. الدوسري)، الرجل الذي دخل مكتبنا في أحد أيام عام 2008 بمبلغ زهيد لا يتجاوز العشرة آلاف ريال سعودي، وبحلم كبير بدا بعيد المنال للكثيرين، لكنه لم يكن كذلك لمن آمن بقدرة الله ثم بقدرته على تغيير واقعه. إنها قصة تجسد معنى الانطلاقة الحقيقية من الصفر، وكيف يمكن للإصرار والعمل الجاد، مع استشارة أهل الخبرة، أن يحول مبلغاً بسيطاً إلى نواة لمشاريع عظيمة.
من عشرة آلاف ريال إلى عالم العقار
كان ذلك في عام 2008، عام كانت فيه عجلة الاقتصاد تدور بوتيرة متسارعة، وفرص الأعمال تتلألأ في الأفق لمن يجرؤ على اقتناصها. في مكتبنا الاستشاري، كنا منهمكين في اجتماع عميق، تملأ الطاولة أوراق المشاريع ودراسات الجدوى، وتتعالى أصوات النقاش بيني وبين زملائي الاستشاريين وممثلي مكاتب أخرى، نحاول فك رموز مشروع معقد ووضع استراتيجية ناجحة له. كان التركيز سيد الموقف، وكل حواسنا موجهة نحو الأرقام والتحليلات.
وفجأة، ودون سابق إنذار، قُطع حبل أفكارنا بدخول رجل إلى قاعة الاجتماعات. لم يكن من المدعوين، ولم يكن يرتدي حلة رسمية كتلك التي اعتدنا رؤيتها في عالم الأعمال والاستشارات. كان رجلاً بسيط الهيئة، يرتدي ثوباً متواضعاً، وعلى وجهه مزيج من الحرج والإصرار. تقدم بخطوات هادئة، ثم اعتذر بصوت خفيض عن اقتحامه المفاجئ لاجتماعنا، وقال بكلمات بسيطة لكنها تحمل صدقاً عميقاً: "أنا رجل بسيط، اسمي (ب. الدوسري)، وأحتاج لعمل مشروع، لكن كل ما أملكه هو عشرة آلاف ريال فقط. أعلم أنكم أهل الخبرة، وجئت طالباً مشورتكم".
ساد صمت قصير في القاعة، تلاه بعض التململ والضحكات المكتومة من بعض الزملاء. عشرة آلاف ريال؟ في عالم الاستشارات حيث تُقدر المشاريع بملايين، بدا المبلغ ضئيلاً جداً، والطلب أشبه بالمستحيل. لكن شيئاً ما في نبرة الرجل الصادقة وعينيه اللامعتين بالإصرار دفعني للنهوض. استأذنت من الحضور، واصطحبت السيد الدوسري إلى زاوية هادئة، بعيداً عن أعين المتشككين.
استمعت إليه مرة أخرى، وأدركت أنه جاد تماماً. لم يكن يبحث عن صدقة، بل عن فرصة، عن فكرة عملية يمكن أن يبدأ بها بما لديه. فكرت سريعاً في الخيارات المتاحة التي تتناسب مع هذا المبلغ البسيط وتتطلب جهداً شخصياً كبيراً. لمعت في ذهني فكرة سوق الكمبيوتر والجوالات، ذلك السوق الصاخب الذي لا يهدأ. قلت له: "يا أخ (ب)، المبلغ بسيط، لكن الإرادة تصنع المعجزات. اذهب إلى سوق الكمبيوتر والجوالات، وابحث عن طاولة صغيرة للإيجار داخل أحد المجمعات هناك. إيجار الطاولة لن يكلفك الكثير، ربما ألفي ريال شهرياً في ذلك الوقت. بالمبلغ المتبقي، اشترِ وبع في الجوالات المستعملة. هذا السوق فيه حركة دائمة، والربح يأتي من سرعة دوران البضاعة. اجتهد، وكن أميناً، والله يوفقك".
لم يتردد الرجل. شكرني بحرارة وانصرف وعلامات العزم ترتسم على وجهه. مرت الأيام والشهور، وانشغلتُ بمشاريعي واستشاراتي، وكادت قصة الرجل البسيط أن تتلاشى من ذاكرتي. لكن بعد مرور ما يقرب من العام، وبينما أنا في مكتبي، أُبلغت بأن السيد (ب. الدوسري) يطلب مقابلتي. دخل الرجل، لكنه لم يعد ذلك الشخص البسيط المتردد الذي قابلته أول مرة. كان لا يزال متواضعاً، لكن الثقة بالنفس كانت تشع منه. وضع أمامي علبة أنيقة تحتوي جوال ايفون ! وقال بابتسامة: "هذه هدية بسيطة عربون شكر على مشورتك التي غيرت حياتي. تفضل بزيارتي لترى ما وصلت إليه".
بالطبع، لبيت الدعوة بلهفة. ذهبت إلى سوق الكمبيوتر، وإذا بي أجد أن السيد الدوسري لم يعد يملك طاولة واحدة، بل استأجر أربع طاولات أخرى، ووظف لديه مجموعة من الشباب للبيع، بل إنه تمكن من شراء المحل الذي كان يستأجر فيه الطاولات! لقد بنى اسماً وسمعة طيبة في السوق بفضل أمانته واجتهاده. لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل قال لي: "لقد اشتريت قطعة أرض في شمال الرياض، بالقرب من طريق أنس بن مالك، وأريد منكم الآن عمل دراسة جدوى لمشروع بناء مجموعة فلل سكنية عليها".
كان ذلك في عام 2010، وفي ذلك الوقت، كان الموقع الذي اختاره يعتبر بعيداً نسبياً وغير مأهول بالكامل. بصراحة، كنت متخوفاً بعض الشيء من جدوى المشروع في ذلك الموقع. لكن إصراره ورؤيته كانا أقوى من مخاوفي. عملنا له الدراسة المطلوبة، وبدأ في تنفيذ المشروع. والمفاجأة أنه استطاع بيع جميع الفلل بنجاح حتى قبل اكتمال البناء بالكامل! لقد أثبت مرة أخرى أن لديه حساً استثمارياً عالياً وقدرة على رؤية الفرص حيث يرى الآخرون المخاطر.
اليوم، أصبح السيد (ب. الدوسري) اسماً لامعاً في عالم الأعمال، يشار إليه بالبنان، وتوسعت مشاريعه وتنوعت. كل ذلك بدأ من عشرة آلاف ريال، وفكرة بسيطة، وعزيمة لا تلين، وتوكل على الله. لقد كافح وقام بما بدا مستحيلاً للكثيرين، ليثبت أن الانطلاقة من الصفر ليست مجرد شعار، بل هي واقع يمكن تحقيقه بالإرادة والعمل.
تحليل ونقاط رئيسية
قصة السيد (ب. الدوسري) ليست مجرد حكاية نجاح فردية، بل هي مجموعة من الدروس والعوامل المتشابكة التي يمكن تحليلها واستخلاص النقاط الرئيسية منها:
- التواضع وطلب العلم: لم يمنعه وضعه المادي البسيط أو هيئته المتواضعة من دخول مكتب استشاري كبير وطلب المشورة من أهل الخبرة. إدراكه لحاجته للمعرفة كان أولى خطوات النجاح.
- سرعة التنفيذ والاستجابة: لم يتردد أو يسوّف بعد حصوله على النصيحة، بل بادر فوراً بتطبيقها. هذه القدرة على تحويل الفكرة إلى فعل هي سمة أساسية لرواد الأعمال الناجحين.
- البدء بالصغير والتركيز: النصيحة كانت محددة وعملية: طاولة واحدة، جوالات مستعملة. التركيز على مجال محدد ونقطة بداية صغيرة سمح له بإدارة المخاطر والتعلم بسرعة بأقل تكلفة ممكنة.
- النمو التدريجي والمدروس (Scalability): لم يقفز خطوات واسعة، بل توسع بشكل تدريجي ومنطقي: طاولة، ثم طاولات إضافية، ثم توظيف، ثم شراء المحل. هذا النمو العضوي سمح له بالحفاظ على السيطرة على عملياته.
- إعادة استثمار الأرباح: من الواضح أنه لم يكتفِ بالربح القليل، بل أعاد استثمار أرباحه في توسيع نشاطه الأساسي (الجوالات) ثم انتقل إلى قطاع آخر (العقار)، مما يدل على فهم عميق لأهمية إعادة الاستثمار لتحقيق نمو مستدام.
- الرؤية والقدرة على تحمل المخاطر المحسوبة: استثماره في العقار في منطقة كانت تعتبر بعيدة آنذاك ينم عن رؤية مستقبلية وقدرة على تقييم الفرص بشكل مختلف عن السائد، مع تحمل درجة من المخاطرة المحسوبة بناءً على دراسة الجدوى.
- المثابرة والاجتهاد: النجاح لم يأتِ بين عشية وضحاها، بل تطلب عاماً كاملاً من العمل الشاق والمستمر للانتقال من طاولة واحدة إلى شراء المحل، ثم سنوات أخرى للنجاح في المشروع العقاري. المثابرة هي الوقود الذي يبقي شعلة الحلم متقدة.
- بناء السمعة والأمانة: الإشارة إلى أنه بنى سمعة طيبة في السوق تشير إلى أهمية الأمانة والتعامل الحسن في كسب ثقة العملاء وتحقيق النجاح على المدى الطويل.
الدروس المستفادة
من رحم هذه القصة الواقعية، يمكننا استخلاص دروس عملية قيمة لكل من يطمح لدخول عالم الأعمال أو يسعى لتطوير مشروعه القائم:
- لا تحتقر البدايات الصغيرة: رأس المال الحقيقي ليس فقط المال، بل هو العزيمة والإصرار والفكرة القابلة للتطبيق. ابدأ بما هو متاح لديك، مهما كان صغيراً، فالنهر العظيم يبدأ بقطرة ماء.
- اطلب المشورة من أهل الخبرة وكن مستعداً للتنفيذ: لا تتردد في استشارة من هم أكثر منك خبرة ودراية، ولكن الأهم من ذلك هو أن تكون لديك الجرأة والشجاعة لتطبيق النصيحة الجيدة وتحويلها إلى واقع ملموس.
- التركيز على التدفق النقدي وإعادة الاستثمار: في المراحل الأولى، التدفق النقدي هو شريان الحياة للمشروع. ركز على تحقيق أرباح سريعة، ولو كانت قليلة، وأعد استثمارها بحكمة لتغذية نمو المشروع وتوسيعه.
- كن صياداً للفرص: الفرص قد تأتي بأشكال غير متوقعة وفي أماكن غير مألوفة. طور قدرتك على رؤية الإمكانيات حيث يرى الآخرون الصعوبات، وكن مستعداً لاقتناص الفرصة المناسبة في الوقت المناسب.
- النجاح رحلة تتطلب الصبر والمثابرة: لا تتوقع نتائج فورية. طريق ريادة الأعمال مليء بالتحديات والعقبات، والنجاح المستدام يتطلب نفساً طويلاً وقدرة على مواصلة السير رغم الصعاب.
- التوكل على الله والأخذ بالأسباب: قصة الدوسري تذكرنا بقوله تعالى: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ". التوكل لا يعني القعود، بل هو الثقة بالله مع بذل أقصى الجهد الممكن والأخذ بالأسباب المتاحة. وعندها، قد يأتيك الرزق والنجاح "مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ".
إن قصة (ب. الدوسري) هي شهادة حية على أن الإمكانيات الحقيقية تكمن داخل الإنسان نفسه، وأن الظروف المادية ليست عائقاً أمام من يمتلك الإرادة والرؤية والتوكل على الله. الانطلاقة من الصفر ممكنة، بل قد تكون هي الشرارة التي توقد أعظم قصص النجاح. لقد بدأ بطاولة صغيرة في سوق مزدحم، وانتهى به المطاف مطوراً عقارياً ناجحاً، ليترك لنا درساً بليغاً في الإصرار وتحويل الأحلام إلى حقيقة.
والآن، وبعد أن استعرضنا هذه الرحلة الملهمة، يبقى السؤال: ما هي الخطوة الأولى الصغيرة التي يمكنك اتخاذها اليوم نحو تحقيق هدفك أو مشروعك الخاص، مهما بدت الموارد محدودة؟ وكيف يمكنك أن تجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب المتاحة لتحقيق ما تصبو إليه؟